د. محمد البرادعي
فجأة وبدون مقدمات استيقظ المصريون على حلم وردي وجدوا خلاله حلولا لجميع مشاكلهم من فقر وبطالة ومرض، وكان بطل هذا الفيلم عفوا الحلم هو الفارس المغوار د. محمد البرادعي، الذي تمادى البعض في وضع الآمال عليه حتى رفعوه لمكانة المسيح المخلص أو المهدي المنتظر، على اعتبار أن في يديه عصا سحرية يفعل عن طريقها ما يشاء أو يطلب منه.
فبمجرد إعلان وسائل الإعلام رغبة د. البرادعي العودة إلى مصر وفي أعقاب تصريحاته لإحدى الصحف الأجنبية عن عدم استبعاده ترشيح نفسه رئيسا لمصر لكن بشروط، لم يغب الحلم الوردي عن عيون الملايين الذين رأوه "تاجر السعادة" الذي سيمحو مظاهر البؤس ويطهر البلاد من الفساد ويرفع مقام مصر إلى مصاف الدول العظمى.
لكن الرجل، وبكل أمانة وثقة، أعلنها صراحة أنه لا يحمل عصا سحرية ولا يستطيع أن يكون مصلحا اجتماعيا وحده والشعب يتفرج عليه، مشيرا إلى ضرورة أن يتكاتف الجميع لتحقيق هذه الأحلام، معلنا ترأسه لجبهة وطنية من أجل التغيير سيعمل من خلالها مع رموز السياسة والاجتماع على بحث آليات تحقيق الحلم المصري.
وأيا ما كان المنهج والنتيجة فإنه مما لا شك فيه أن عودة البرادعي إلى مصر أحدثت حراكا لا يستطيع إغفاله أحد على الأقل على المستوى الإعلامي، حيث وجد فيه الصحفيون والفضائيات مادة دسمة لجذب الجماهير، وإن تفاوتت الأقلام والبرامج التي تعاملت معه، ففي حين احتفى به البعض واستقبلوه استقبال الفاتحين، كان لبعض الأقلام رأي آخر.
وذلك على النحو الذي رآه الصحفي الأهرامي الكبير صلاح منتصر وقوله في عموده اليومي - مجرد رأي - عن حديث البرادعي مع منى الشاذلي والذي راح يقول: "أول ما يلفت النظر أن الدكتور البرادعي بدلا من أن يرجو الشعب قبوله مرشحا له، فإنه على العكس يطلب أن يكون الشعب هو الذي يأتي به مرشحا.. يقول في ذلك إنه ليس على استعداد لدخول حزب من الأحزاب القائمة لأنه لا يعترف بها، ولا تكوين حزب جديد لأنه لا يقبل أن يضع نفسه في إطار رسمي، ويقول أكثر إنه وحده لن يفعل شيئا فالتغيير لا بد أن يأتي من الشعب وأن ذلك بقيام طوائفه مثل أساتذة الجامعة والمحامين والأطباء والمهندسين بتجميع توقيعات وممارسة الضغط وبالتالي وبعد أن تنجح ضغوط التوقيعات يأتي هو ويتولي المكان".
ويستطرد منتصر: "إن وسيلة التوقيعات التي يلح عليها الدكتور البرادعي هي نفس فكرة توقيعات 1919 التي نبعت تلقائيا من الشارع عندما رفضت سلطة الاحتلال البريطاني لمصر السماح للزعيم سعد زغلول برئاسة وفد يسافر للتفاوض باسم الشعب على أساس أنه ليس مفوضا منه، ومع ذلك لم تقدمها الجماهير لسعد إلا بعد أن نزل إلى الشارع السياسي وأصبح زعيما يكافح معهم، أما الدكتور البرادعي فيطلب أن تأتي هدية ممن يريده وتضحياتهم دون أن ينزل إلى الشارع ويضحي معهم"!
ومازلنا في "الأهرام" لكن مع عمود آخر أكثر شراسة، كما كتب رئيس تحريرها أسامة سرايا، والذي راح يقول أيضا: "في عالم يسوده الخيال يمكن لكل متحدث أن يقول ما يشاء وكيفما يشاء دون أن يحاسبه أحد أو حتى يطرح عليه الأسئلة الحقيقية، ولذلك فمن حق الكثيرين ألا يأخذوا ما يدور الآن حول الانتخابات الرئاسية مأخذ الجد الذي لم يأت وقته بعد، ومن حق الكثيرين أيضا أن يروا ما يحدث الآن على بعض الساحات الإعلامية نوعا من الخيال ونوعا من الترفيه في عالم السياسة المأزوم دوما بالمشكلات والمعضلات والتعقيدات، أو لبعض الجماعات التي احترفت الوجاهة السياسية والوجود الإعلامي دون بذل جهد حقيقي في هذا المجال بين الناس وفي الوطن، الآن وفي ساحة الأحلام والأماني يستطيع اللاعبون عبر الفضائيات والصحف ترشيح هذا، وطلب النجدة من ذلك".
ويردف سرايا قائلا: "لكن هذه الأحلام سوف يبددها الجد حين تبدأ المعركة الحقيقية لاختيار أرفع مناصب الدولة.. وقتها سوف يدرك الجميع كم كان الصخب السياسي الراهن نوعا من التسلية المثيرة في ساعات المساء، وسوف يمنح الناخب المصري صوته لمن يخطو به خطوات على طريق مكافحة الفقر، ووضع المنسيين في القرى المصرية تحت دائرة الضوء الذي يستحقونه، ومن يستطيع تجاوز الأزمات التي تأتي من الداخل أو تفرض عليه من الخارج، ولن تظل مصر أسيرة لجماعات محظورة أو قوى سياسية هامشية الوجود في قلب حياتنا السياسية، فيمارسون علينا وعلى مستقبلنا السياسي الدور نفسه الذي يلعبه قطاع الطرق أو المتطرفون أو واضعو الأيدي على أراضي الدولة بلا سند من قانون أو واقع".
أما عبد الله كمال رئيس تحرير جريدة "روزاليوسف"، فراح يشير إلى ضرورة أن يكون حاكم مصر قويا كما هي صورته في أذهان الناس، وهذا ميراث تاريخي، قال عنه: "حاكم مصر سواء كان فرعونا او واليا او سلطانا او ملكا او رئيسا له صولجانه فإن هناك علاقة خاصة تربطه بالمجتمع لا سيما حين يكون جديرا بذلك، وحين تكون خصائصه الشخصية مقنعة للجمهور، وحين فقد الفراعنة صولجانهم في نهاية الحضارة الفرعونية كان ان تدهور حال الدولة".
ويستطرد كمال قائلا: "لا نبتعد عن الواقع حين نقول أن بعضا من الهجمات الشرسة على البلد الآن، له علاقة بالرغبة في تغيير صفة الحاكم القوي ومواصفاته وقدرته على السيطرة على الدولة. وحتى المصريون وهم يختارون حاكمهم فإنهم قبل أن يقرروا من هو إنما يطابقون بين مواصفات المرشحين ومستوى إقناعها وقدرتها على أن تتماثل مع ما كان في ذواتهم وثقافتهم حول الحاكم وسماته التي يريدونها، ولعل في هذا إجابة على فشل أشخاص متوالين في أن يقدموا أنفسهم للمجتمع على أنهم يصلحون لمنصب الرئيس بغض النظر عن عدم انطباق الشروط الدستورية عليهم".
وعلى الجانب الآخر ظهرت كتابات أخرى تشد من أذر البرادعي وتصفه بالشخصية المصرية الليبرالية التي خبرت السياسة الدولية، وتعاطت مع قيادات عالمية، وواجهت مشاكل وقضايا معقدة تتعلق بأمن العالم واستقراره، وتشابك المصالح الإقليمية والعالمية، والتنافس الحاد بين مراكز القوى الرئيسية، ولذلك ليس غريبا أن ترى فيه شريحة واسعة من المصريين خشبة الخلاص، أو عجلة الإنقاذ من حال الانهيار التي تعيشها البلاد حاليا.
شبهته أقلام بالسيد المسيح
كما شبهته أقلام أخرى بالسيد المسيح الذي قام من بين الأموات بعد ثلاثة أيام، حسب الكتاب المقدس، حيث قام الدكتور محمد البرادعي من قلب حالة موات سياسي وتدهور اقتصادي واجتماعي، خلفتها أحوال يراها كثيرون متردية، وأحلام بأن نكون شعب له احترامه، هكذا رأى بعض المصريين الاستقبال الحافل الذي لاقاه الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية لدى عودته إلى القاهرة.
وقد جنحت التصريحات الأولى التي أدلى بها البرادعي بعد عودته باتجاه التصعيد، عندما وصف النظام بأنه "غير شرعي"، مشيرا إلى انه سيعمل على حشد الضغوط لتعديل الدستور بهدف السماح للمستقلين بدخول الانتخابات الرئاسية.
إلا أن صدور هذه التصريحات لم يأخذ في الحسبان ظهور "زعيم وطني للمعارضة" يتمكن من حشد دعم شعبي، قد لا يكون ضخما، لكن تجاهله يعمق حتما مأزق الحزب الحاكم ويقوي احتمالات تصاعد الاضطرابات المجتمعية في ظل توسع غير مسبوق لثقافة التظاهر والاحتجاج بسبب التدهور الاقتصادي.
ومن المرجح أن بزوغ نجم البرادعي كزعيم إصلاحي ومرشح رئاسي محتمل، قد أسهم ولو بشكل مؤقت في تجميد سيناريو التوريث، والبدء عمليا في الإعداد لفترة رئاسية سادسة للرئيس مبارك، فكما يرى الكثيرون فإن البرادعي وصل إلى مصر في لحظة لا تبحث فيها عن بطل، ولكن عن طريق ليعيش المصريين في بلد "حقيقي"، يجد فيه الإنسان العادي التعليم الجيد والعلاج الجيد، ويستطيع أن يدفع فيه إيجار البيت وحياة آمنة "ماء شرب غير ملوث وطعام صحي ومواصلات آدمية وشوارع تحترم الضعفاء لا الأقوياء فقط وطرق لا تتحول إلى مصائد موت سريع".
هذه حقوق أولية في أي بلد محترم، والكلام الحقيقي في أي حوار بين اثنين من المصريين ليس على تولي السلطة أو من يصبح الرئيس، الكلام يدور فعلاً على خلفية سؤال كبير: ماذا سيفعل الرئيس المقبل في تركة ثقيلة تهلهلت معها مصر وتحولت فيها الحياة إلى أزمات متواصلة من التعليم إلى الغاز؟ ماذا سيفعل الحاكم وحكومته لتجد الأجيال المقبلة فرصاً أفضل في الحياة الكريمة؟ لم يعد المصريون يريدون بطلاً يحملونه على الأعناق وينوب عنهم في تحقيق الأحلام، المصريون دفعوا ثمناً خرافياً في مقابل تحويل الحكام إلى أبطال وآلهة.
وضع الأمل في البرادعي هو إعلان مباشر برفض الموت السياسي وكهنته الموجودين في كل الأحزاب، وهذا سر عدم وجود ممثلين لهذه القوى السياسية يوم الاستقبال، لا الإخوان ولا الناصريون ولا اليسار ولا أي حزب علني باستثناء الحزب الدستوري، والغياب علامة على استياء غير معلن يصل إلى حد قبول الصفقات السرية المعتادة مع النظام، وفي مقدمتها هذه الأيام توزيع مقاعد مجلس الشورى.
هذا في الوقت الذي فتح فيه البعض النار صراحة على رمز التغيير، حيث تقدم خالد عبد الفتاح، رئيس مؤسسة "مواطنون ضد الغباء السياسي"، بأول بلاغ للنائب العام ضد الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية ورئيس جبهة "التغيير والإصلاح الدستوري"، والذي يعتزم الترشح على منصب رئاسة الجمهورية في الانتخابات المقبلة.
وذكر عبد الفتاح في بلاغه الذي حمل رقم 3457 لسنة 2010 عرائض النائب العام، أن الدكتور البرادعي "يثير الفتنة السياسية ويستخدم كراهية الحركات والقوى السياسية للحكومة، بما يؤثر على أمن وسلامة البلاد في الفترة الحالية".
وأوضح عبد الفتاح أن البرادعي "شخص مبهم سياسيا، فلم يكشف عن هويته السياسية حتى الآن أو حتى عن أطروحاته نحو التغيير وتعديل الدستور"، وأضاف عبد الفتاح أنه من الغريب أن أول من طرح اسم البرادعي للترشح لرئاسة الجمهورية هو مركز بن خلدون، وهو ما يدل على أن هناك رابطا بينه وبين الدكتور سعد الدين إبراهيم، مؤكدا على أن البرادعي هو وجه لشخصيات أخرى تحاول أن تتوغل في السياسة المصرية.
ودلل عبد الفتاح على ذلك بأن الدكتور البرادعي طيلة 30 عاما ماضية كان رجل الدولة، وتقلد العديد من المناصب في الخارجية المصرية، وفجأة عاد من الخارج وأصبح المعارض الأول في مصر.
ولعل الملمح الثابت في هذه المناهج الثلاثة التي تعاملت مع البرادعي كانت في جميع الأحوال تدعم نظرية المؤامرة ضده، حتى تلك المؤيدة لترشيحه، ولعل هذا ما عبر عنه زميلنا عبد الحليم قنديل حين قال: "أخشى أن نقع في ظن التهوين من دور وارد للبرادعي، أو في ظن التهويل بتشبيهات سخيفة من نوع تشبيه عودته إلى مصر بعودة الإمام الخميني من باريس إلى طهران".
"فالبرادعي ليس زعيما ولا قائدا سياسيا بعد، وهو رجل على قدر عظيم من التواضع الخلقي، وأمامه وقت لكي يفهم بالدقة ما يجري في مصر، ويرتب أوراقه، ويحزم قراره، وينحاز إلى اختيارات تخلع القلب أو تميته"، بحسب قنديل.
No comments:
Post a Comment