إذ يغادر بيل جيتس منصبه التنفيذي على رأس مايكروسوفت ليتفرغ لمؤسسته الخيرية، فإنه يترك وراءه شركة تمس بمنتجاتها شتى أوجه حياتنا منذ سبعينيات القرن الماضي. ويُخلّف وراءه أيضًا مسألة الاحتكار التي تقض مضجع الشركة العملاقة منذ أوائل التسعينيات الماضية.
فسعيها الحثيث للمنافسة في ميادين عدة قد جعلها دومًاً محط انتقاد، وهدفًاً للدعاوى القضائية التي لا زالت بعض جولاتها تدور في أروقة المحاكم إلى الآن. فكيف بلغ جيتس قراره بالتنحي عن عرش مايكروسوفت في تلك الظروف؛ وما مستقبل عملاق البرمجيات بعد رحيله؟ هذا ما يكشف عنه هذا الملف عبر المحاور التالية:
- كيف صارت مايكروسوفت أكبر شركة برمجيات في العالم؟
- هل مايكروسوفت شركة احتكارية؟
- كيف يبدو مستقبل مايكروسوفت بعد رحيل جيتس؟
كيف صارت مايكروسوفت أكبر شركة برمجيات في العالم؟
يكمن السر في صعود مايكروسوفت الصاروخي في سياسة أقرتها الشركة منذ عام 1981 بترخيص نظام تشغيلها لمصنعي الحواسيب بدلا من حصره على حواسيب من إنتاجها كما فعلت منافستها "أبل".
ففي أواخر مايو 2008، وفي لقاء كان الأول من نوعه منذ باعدت بينهما المنافسة الشديدة والسجالات في أروقة المحاكم، اجتمع بيل جيتس وستيف جوبز، مؤسسا شركتي مايكروسوفت وأبل على خشبة مسرح واحدة ضمن فعاليات مؤتمر تقني. وطلب المحاوران، وكلاهما صحفي بالـ"وول ستريت جورنال"، من كل من الضيفين الكبيرين (المولودين بالعام 1955) أن يبدأ بذكر شيء إيجابي عن جاره. فقال جوبز إن جيتس كان أول من تنبّه لمحورية البرمجيات (software). ومن ثم فإنه ربما يكون هو وشركته قد لعبا الدور الرئيس في قيام البرمجيات كقطاع مستقل في صناعة الحوسبة، بعد أن كان ينظر إليها كتابع أو مكمل للأجهزة والعتاد الحاسوبي (hardware).
ولم تكن تلك مجاملة اقتضتها اللحظة. ففي العام 1981 بدأت ترخيص نظام تشغيلها -تأسست قبل ذلك بستة أعوام- شركة ناشئة اسمها مايكروسوفت "دوس" (DOS) للشركة العملاقة "آي بي إم" (IBM). وخلال نحو عشرة أعوام، كانت مايكروسوفت بصعودها الصاروخي قد فاقت نموا وأرباحا المنافسين والعمالقة -ومنهم "آي بي إم"- التقليديين.
وبحلول العام 2008 كان المشهد أكثر غنى، فمايكروسوفت بمنتجاتها ووقائع منافساتها تلخص تقريبا قطاع تقنيات المعلومات بأكمله، فإضافة إلى نظام تشغيلها الذي لا يزال يحتل الصدارة بين منافسيه، لمايكروسوفت سجالات في ميادين قواعد البيانات فائقة السعة، والبرمجيات المكتبية (مثل معالجة النصوص والجداول المحاسبية)، ونظم تشغيل الأجهزة الخادمة والشبكات، ومتصفحات الإنترنت، والألعاب الحاسوبية، وبرمجيات إدارة الأعمال (enterprise resource planning) وبرمجيات خدمة العملاء وبرمجيات محركات البحث، وأنظمة المعلومات الجغرافية، ومشغلات الموسيقى والأفلام وأجهزة الألعاب (game consoles) وغيرها.
ووفقا لموقعي ياهو وجوجل لشئون البورصة، تبلغ القيمة السوقية لمايكروسوفت عند كتابة السطور 257 مليار دولار، أي ما يفوق بنسبة كبيرة قيمة أكبر مُصنّع للسيارات في العالم تويوتا (141 مليارا)، وأكبر شركة تجزئة ول مارت (230 مليارا)، وكذا العملاق القديم "آي بي إم" (172 مليارا). والقيمة السوقية تعني محصلة قيمة الأسهم لشركة عند لحظة معينة. وكان التقييم السوقي لمايكروسوفت قد قارب الـ600 مليار أواخر التسعينيات الماضية.
صعود مايكروسوفت
الآن وقد أعلن جيتس تنحّيه عن عرش مايكروسوفت أوائل يوليو 2008 ليتفرغ لقيادة مؤسسته الخيرية الضخمة، يبرز السؤال: كيف صعدت صانعة "ويندوز" لتتبوأ تلك المكانة؟ وكلما أثير هذا السؤال، بادر نفر غير قليل بالقول إن مايكروسوفت إنما حققت ذلك عبر ممارساتها الاحتكارية، خاصة بالعمل على إفلاس منافسيها بأن تقدم مجانا منتجات بديلة لمنتجات الآخرين غير المجانية (والمثال الأشهر هنا متصفح إنترنت إكسبلورر مقابل متصفح "نتسكيب").
ولكن هذه إجابة تعوزها الدقة. صحيح أن الحديث عن الممارسات الاحتكارية مشروع ولا يزال محل نقاش (ومنازلات قضائية مع محكمة المنافسة في الاتحاد الأوروبي) فيما يخص الحقبة التي تأكد فيها وضع تشغيل "ويندوز" كأكثر أنظمة التشغيل شيوعا. ومعظم الدعاوى ضد مايكروسوفت حول الممارسات الاحتكارية ترتكز على القول بأن مايكروسوفت استخدمت نظام تشغيلها الشائع لتزيح منافسا أو تعطي الميزة لمنتج من منتجاتها على منافسيه.
ولكن مسألة "الممارسات الاحتكارية" (سواء ثبتت أو لم تثبت) على منافسيه لا تكفي لتفسير تفوق "ويندوز" -أهم منتجات مايكروسوفت وأكثرها ربحية- في النصف الثاني من الثمانينيات. وهي الفترة التي مهدت لانطلاق مايكروسوفت بزخم أكبر خلال التسعينيات. ففي تلك الفترة كانت مايكروسوفت شركة صغيرة الحجم. ولم يكن ممكنا لها أن تفرض سطوة احتكارية على منافسين أكبر وأطول عمرا.
وفي المقابل، يرى آخرون أن السبب الرئيس لتفوق مايكروسوفت، على منافستها "أبل هي أنها -على غير ما فعلت منافستها "أبل"- خاصة خلال عقد الثمانينيات كان قبولها ترخيص نظام تشغيلها ويندوز لمُصنّعي الحواسيب مثل "آي بي إم" و"كومباك"، ولاحقا "هيولت باكارد" و"دِل" وغيرهم. فقد وفر ذلك لـ"ويندوز" شيوعا لم يتح لمنافسيه. كما أنه دفع بنظام مايكروسوفت ليصبح المعيار السائد الذي يجب أن تتوافق معه كل أنواع البرمجيات، مما ساعد بدوره على إقبال المزيد من المستخدمين عليه تحاشيا لمشاكل عدم التوافق بين برمجياتهم المفضلة ونظم التشغيل المختلفة.
صراع الكبار
كان قرار ترخيص نظم تشغيل مايكروسوفت ("دوس" ثم "ويندوز") بالغ الذكاء وحاسما في إمالة كفة المنافسة لصالحها. وللتعرف على الأجواء التي اتخذت فيها قيادة مايكروسوفت هذا القرار المصيري لا بد من إلقاء نظرة على المنافسة التي استعرت أوائل الثمانينيات بين شركتي مايكروسوفت وأبل.
ففي العام 1977، وبينما كانت مايكروسوفت تتلمس طريقها بتطوير برمجية لتوفيق لغة "بيسك" للعمل على حاسوب "ألتير"، طرحت شركة أبل حاسوب "أبل 2" الذي يعد أول حاسوب شخصي؛ والذي احتوى شاشة ولوحة مفاتيح كاملة، وكان حجمه صغيرا بالمقارنة بمنافسيه. وفي عام 1980 تعاونت مايكروسوفت مع شركة "آي بي إم" بتزويدها بنظام تشغيل ليعمل على الحاسوب الشخصي الذي تطوره الأخيرة. وشجع نجاح الشراكة مايكروسوفت على السعي لترخيص نظام تشغيلها لمصنّعي حواسيب آخرين خلال العام 1981. وكان نظام التشغيل "دوس" من تطوير شركة أخرى، ولكن اشترته مايكروسوفت وطوعته لمتطلبات "آي بي إم". ثم حل العام 1983 بقفزة في تطور الحواسيب حين أطلقت "أبل" حاسوب "أبل ليسا" وكان أول حاسوب يعمل بواجهة مستخدم جرافيكية وليس الأوامر النصية. وكان تطوير الواجهة الجرافيكية قد استغرق من أبل أربعة أعوام، وهي الفترة التي تفصل بين إطلاق "أبل ليسا" وزيارة ستيف جوبز لمشاهدة الواجهة الجرافيكية التي طورتها مختبرات شركة "زيروكس" في العام 1979.
وقد بدت واجهة المستخدم الجرافيكية، بأيقوناتها الملونة ويسر استخدامها، أنها التوجه المستقبلي في الحواسيب الشخصية. فأعلنت مايكروسوفت في نوفمبر 1983 عزمها تطوير نظام تشغيل "ويندوز" بواجهة مستخدم جرافيكية، وليتاح تجاريا بعد ذلك بعامين، وكانت أبل خلال تلك الفترة قد أطلقت إصدارا أحدث من نظم تشغيلها وحواسيبها هو "أبل ماكنتوش" عام 1984.
وتأكد بحلول العام 1984 أن شركتي أبل ومايكروسوفت يعتليان الصدارة في مضمار الحواسيب الشخصية. ولكنهما اتخذتا وجهتين مختلفتين. فمايكروسوفت ركزت على البرمجيات (نظام التشغيل)، وتعاونت مع مصنعي الحواسيب الذي يقدمون العتاد الحاسوبي. أما أبل فقد أصرت على أن تصنّع حواسيبها من الألف للياء، برمجياتٍ وعتادا حاسوبيا. ورفضت ترخيص نظام تشغيلها لمصنعين آخرين (وقاضت مايكروسوفت بدعوى تقليد نظام تشغيلها).
ورغم تفوق نظام تشغيل "ماكنتوش" على "ويندوز" في تلك الفترة -بحسب محللين كثر- فإن سياسة الترخيص ضمنت لـ"ويندوز" انتشارا سريعا. وبينما كان "ويندوز" في منحناه الصاعد، عانت أبل من تخبطات إدارية، منها إصدار حواسيب باهظة الأسعار، انتهت بإقصاء ستيف جوبز عن منصبه عام 1985 (ثم ليعود ليقود الشركة مجددا بعد 12 عاما).
هناك بالطبع من يرى أن احتفاظ أبل بالسيطرة على شقي الحاسوب (البرمجيات والعتاد) قد جعل حواسيبها بصورة عامة أعلى جودة من نظرائها من المصنعين الآخرين الذين تحمل حواسيبهم أنظمة "ويندوز". وربما لا يخلو هذا الرأي من صواب. ولكن مايكروسوفت عملت باطراد على تحسين نظام تشغيلها. ففي أعقاب الإصدار الأول في نوفمبر 1985، أصدرت الثاني في أبريل 1987، والثالث في مايو 1990، والثالث المُحسن في أبريل 1992، ثم إصدار "ويندوز 95" في ذلك العام، ومثله عام 1998، ثم إصدارات الألفية و"إكس بي" و"فيستا" خلال الأعوام التسعة التالية. وبصورة عامة، كان كل إصدار جديد يعالج المشكلات أو النقائص في سابقة بكفاءة معقولة.
سياسة اللحاق بالفرص الفائتة
قد يكون العمل على التحسين المستمر في مقابل المنتج المثالي -نوعا- من الإصدار الأول (وهو ما أصدرته أبل) سببا آخر من أسباب نجاح مايكروسوفت. فثمة أمثلة عديدة على تأخر الشركة في الانتباه للتغيرات الحادثة في قطاع تقنيات المعلومات (كما حدث مع صعود الإنترنت، وأجهزة الألعاب)، ولكن مايكروسوفت سارعت بركوب القطار بأي صورة ممكنة، ثم حسنت منتجاتها مع مرور الوقت، كما فعلت مع متصفحها إنترنت إكسبلورر، وجهاز ألعابها "إكس بوكس" الذي ينافس بشدة الآن جهازي "بلاي ستيشن" من سوني و"واي" من ننتندو.
وربما يعين مايكروسوفت في هذه المساعي ميزانية البحث والتطوير لديها والتي بلغت 6.2 مليارات دولار لعام 2007. لكن سياسة اللحاق بالقطار عند تفويت الفرصة الأولى لم تنجح مع مايكروسوفت في كل الأحوال. ففي أنظمة تشغيل الهواتف النقالة وفي مشغلات الموسيقى وفي محركات البحث تسعى مايكروسوفت منذ ما يزيد على خمسة أعوام على اللحاق بمنافسيها مثل نوكيا وأبل وجوجل، ولكنها لا تستطيع اللحاق بهم. وليس ثمة دلائل على أنها ستتمكن من ذلك في المستقبل القريب.
كذلك شهدت السنوات القليلة الماضية ما قد يكون دليلا على أن سياسة حصر البرمجيات على مُصنّع واحد لها وجاهتها. ولعل المثال الأبرز على ذلك الهاتف النقال "آي فون" (iPhone)، الذي حظي بنجاح كبير منذ أتيح تجاريا أواخر يونيو 2007. فشركة أبل تحكم سيطرتها على كل من البرمجيات والعتاد الحاسوبي لـ"آي فون"، وهذا في رأي كثيرين سبب جودته العالية وتميزه.
ولكن سعي مايكروسوفت للمنافسة في ميادين عدة قد جعلها دوما محط انتقاد وهدفا للدعاوى القضائية القائلة إن شركة "ويندوز" تستغل شيوع نظام تشغيلها لإقصاء المنافسين والترويج لمنتجاتها. وقد كانت قضية الاحتكار التي رفعتها الحكومة الأمريكية ضد مايكروسوفت أواخر التسعينيات أمرا مشهودا، صاحبه الكثير من الجدل.
هل مايكروسوفت شركة احتكارية؟
يترك بيل جيتس مايكروسوفت وقد صارت منتجاتها جزءا من حياة الكثيرين. ولكنه يُخلّف وراءه أيضا مسألة الاحتكار التي تقض مضجع الشركة العملاقة منذ أوائل التسعينيات الماضية.
في الثاني من أبريل 2004، توصلت مايكروسوفت وشركة "صن" -مالكة حقوق نظام تشغيل "سولاريس" ولغة "جافا" و"مايكروسيستمز"- إلى تسوية لإنهاء قضية الاحتكار التي أقامتها الأخيرة ضد الأولى. وبمقتضى التسوية دفعت مايكروسوفت لـ"صن" ملياري دولار. وتبع ذلك تسويات مشابهة مع شركة "نوفِل" (536 مليون دولار)، وفي العام التالي مع شركة "آي بي إم" (حوالي 850 مليون دولار)، و"ريل نتوركس" (761 مليون دولار).
وما إن توارى تهديد دعاوى الاحتكار ضد مايكروسوفت على الجبهة الأمريكية، حتى بزغ على الجبهة الأوروبية. ففي الرابع والعشرين من مارس 2004 غرّمت المفوضية الأوروبية مايكروسوفت 613 مليون دولار دفعة واحدة. وبالطبع استأنفت مايكروسوفت الحكم، ولا يزال السجال دائرا بينها وبين محكمة المنافسة التابعة للاتحاد الأوروبي.
ورغم ضخامة هذه المبالغ فإنها تظل أهون من تقسيم مايكروسوفت إلى شركتين، وهو القرار الذي أصدرته في السابع من يونيو/حزيران 2000 محكمة أمريكية عقابا لمايكروسوفت على ممارساتها الاحتكارية. وقد ألغت المحكمة الدستورية العليا بالولايات المتحدة ذلك القرار، وإن لم تنقض الأسباب التي بُني عليها الحكم السابق، وهي اتباع مايكروسوفت ممارسات احتكارية. وألزمت الدستورية العليا مايكروسوفت بتغييرات في ممارساتها وتعاقداتها مع شركائها لضمان المنافسة الشريفة والعادلة مع منتجات المنافسين.
تهديد قديم
فما المقصود بالاحتكار؟ وكيف بات ذلك الخطر الحائم دوما حول مايكروسوفت؟ الاحتكار يعني أن ينفرد شخص أو مؤسسة بالتحكم بسلعة أو خدمة ثمّ يحدد أسعارها كما يبغي. وتُوْلي أغلب قوانين الاحتكار انتباها عالميا للطريقة التي بلغت بها الشركة وضعا احتكاريا يستوجب العقاب. فلا ينطبق وصف الاحتكار على كل شركة تستحوذ على 80 بالمائة من أحد الأسواق. فلو حظيت شركة بوضع احتكاري أو شبه احتكاري نتيجة تميز منتجاتها عن منافسيها فإن هذا مقبول قانونيا (كما في قواعد بيانات أوراكل ومحرك البحث جوجل). فالعوائد الناتجة عن الوضع الاحتكاري أو شبه الاحتكاري تكون بمثابة المقابل الذي يقدمه المجتمع للمبتكرين والمجتهدين.
أما المساءلة القانونية فتتوجب حين تستخدم شركة وضعها المتميز في أحد القطاعات لتتمكن من دخول قطاعات أخرى بأن تقصي المنافسين -بصورة غير قانونية- أو تجعلهم أضعف في حلبة المنافسة. فنظام "ويندوز" الذي يعمل على نحو 93% من الحواسيب الشخصية عالميا لم يكن مرتكز قضية الاحتكار التي أقامتها الحكومة الأمريكية ضد مايكروسوفت، وإنما ارتكزت القضية على استخدام مايكروسوفت "ويندوز" كوسيلة لإقصاء المنافسين أو إضعافهم.
وكانت المفوضية الفيدرالية الأمريكية للتجارة قد أطلقت في الثلاثين من مايو/أيار 1990 أول تحقيق حول ممارسة مايكروسوفت أساليب احتكارية. واتهمت المفوضية مايكروسوفت باتباع سياسة تسعيرية غير قانونية تؤثر سلبا على المنافسين، وبأنها تخفي شفرة في نظام تشغيلها تثبط أداء البرمجيات من الشركات المنافسة. واستمر التحقيق حول هذه التهم حتى قرب نهاية العام 1993، وكانت القضية قد انتقلت من مفوضية التجارة لوزارة العدل. وفي السادس عشر من يوليو 1994 توصلت مايكروسوفت ووزارة العدل لتسوية، التزمت الشركة بموجبها بتغيير بنود في تعاقدات الترخيص مع مصنعي الحواسيب لإتاحة مجال أكبر لبرمجيات المنافسين.
ولكن التسوية لم تضع نهاية للتحقيقات والدعاوى. فخلال أعوام 95 و96 و97 استمرت الدعاوى من شركات كالديرا للحواسيب واسكو (SCO) للبرمجيات وكذلك وزارة العدل الأمريكية. ثم ثارت القضية الكبرى في عام 1998، حين اتهمت وزارة العدل مايكروسوفت بأنها لم تحترم ما التزمت به في تسوية 1994. وفي نفس العام أقامت عشرون ولاية أمريكية دعاوى احتكار ضد مايكروسوفت.
وخلال تلك القضية التي استمرت خيوطها المتشابكة حتى العام 2004، توافر لفريق الادعاء حالات أكثر على ما قالوا إنها سياسات احتكارية لمايكروسوفت. ويظل المثال الأكثر تواترا متصفح الإنترنت "نتسكيب" وكيف أقصته مايكروسوفت بما بدا أنها ممارسات غير قانونية. فعندما بدأ متصفح الإنترنت "نتسكيب" عام 1992، لم يكن لدى مايكروسوفت متصفح إنترنت بعد. فاشترت برمجية متصفح من شركة صغيرة وأعادت تسميته "إنترنت إكسبلورر". ثم هجرت البرمجية القديمة وأنشأت متصفحا جديدا حمل نفس الاسم عام 1993. واستمر التطوير خلال العامين التاليين، ولكن كما أوضحت ظل "نتسكيب" الأكثر تفوقا. فبدأت مايكروسوفت في إجبار مصنعي الحواسيب على تحميل "إنترنت إكسبلورر" على حواسيبهم كشرط لتجديد ترخيص أوراق المحاكمة "ويندوز" لهم. ولاحقا أدمجت الشركة "إكسبلورر" مجانا في إصدار "98" من نظام "ويندوز"، وهو ما أضعف كثيرا متصفح نتسكيب.
وقد قال الادعاء -الذي ضم الحكومة الأمريكية وشركات خاصة-: إن السياسة التي اتبعتها مايكروسوفت مع "نتسكيب" لم تكن استثناء، وإنما قاعدة طبقتها أيضا مع معالج النصوص "ورد برفكت" وبرمجيات تشغيل الموسيقى والفيديو (كما في برمجيات "ريل نتوركس").
وكانت المحاكمة طويلة ولم تخلُ من المفاجآت. فقد عملت مايكروسوفت على إزالة أحد مستشاري المحكمة (أستاذ القانون لورانس لِسج)، ثم لاحقا اتهمت لدى الدستورية العليا القاضي الرئيس في القضية توماس بنفيلد جاكسون بعدم الحياد، وتم تغييره. وكما ذُكر أعلاه، فقد كان الحكم الأولي بتقسيم مايكروسوفت لشركتين؛ واحدة تختص بنظام التشغيل، والأخرى بالبرمجيات العاملة عليه (كمعالج النصوص ومشغلات الموسيقى، وغيرها). ولكن الدستورية العليا ألغت الحكم، وأيدت المحكمة الفدرالية إجراء تسوية، تقضي بتغريم مايكروسوفت وبإجبارها على تغيير بنود في تعاقدات الترخيص، وعلى إتاحة بعض شفرة برمجية "ويندوز" للمنافسين ليتيقنوا أن برمجياتهم تعمل بكفاءة على نظام التشغيل الشائع.
وجه آخر للاحتكار
ربما تكون مايكروسوفت أفلتت من مصير التقسيم الذي نال شركات أخرى (مثل "ستاندرد أويل" التي أنشأها روكفلر وقُسمت عام 1912). وليس ثمة شك في اتباع مايكروسوفت سياسات احتكارية غير قانونية. والدليل على ذلك قبولها بتسويات كلفتها مليارات الدولارات وقد فعلت ذلك بالطبع تحاشيا لعواقب أسوأ لو استمر النزال القضائي لمنتهاه.
ولكنْ ثمة وجه آخر للاحتكار، ففي بعض الأحيان يكون إعطاء ميزة الوضع الاحتكاري أمرا مفيدا للمستخدمين وللمنافسة مستقبلا. ففي عام 1913 منحت الحكومة الأمريكية حق خدمات الهاتف لشركة "إيه تي آند تي" (AT&T) بناء على اقتراح من رئيس الشركة حينها تيودور فيل. فضمان شركة ما بأنها المقدم الوحيد لسلعة أو خدمة سيشجعها على إنشاء بُنى تحتية واسعة بغير تخوف من المنافسة أو القلق من عدم القدرة على استرداد الاستثمارات المُنفقة. وقد قبلت الحكومة هذا المنطق في سعيها لنشر خدمات الهواتف. وظلت "إيه تي آند تي" المقدم الوحيد للهواتف حتى عام 1984. وقد سبق ذلك اتفاقات مماثلة مع شركات السكك الحديدية في القرن التاسع عشر.
ويبدو أن مايكروسوفت بنظام تشغيلها ويندوز قد لعبت دورا يبدو مماثلا لدور "إيه تي آند تي" وإن كان أثر ذلك عالميا وليس مقصورا على الولايات المتحدة. فقد أدى انتشار نظام "ويندوز" في النصف الثاني من الثمانينيات وخلال التسعينات إلى بزوغه كمعيار موحد تقريبا للحوسبة؛ فيكفي المستخدمين المران على نظام تشغيل واحد ليتمكنوا من إجراء كل مهامهم تقريبا. ويكفي المبرمجين التدرب على نظام تشغيل واحد فقط ليطوروا ما شاءوا من البرمجيات المتكافئة مع ذلك النظام. ثم إن وجود "ويندوز" كقاسم مشترك بين كل مصنعي الحواسيب تقريبا أشعل المنافسة بينهم لتقديم عتاد حاسوبي أكثر كفاءة وأقل سعرا، وقد أسهمت تلك العناصر مجتمعة في انتشار استخدام الحواسيب خلال التسعينيات، وما صاحب ذلك من ارتفاع إنتاجية الشركات والأفراد عامة. والمقصود أن الوضع الاحتكاري لمايكروسوفت، رغم عدم قانونية بعض ممارسات الشركة، كانت له آثار إيجابية.
ولكن تبقى بعض المخاطر أو التهديدات التي تصاحب سيطرة نظام تشغيل واحد على نصيب الأسد من الحواسيب الشخصية والخادمة حول العالم، سواء كانت تلك السيطرة بطرق قانونية أو غيرها. فوجود نظام تشغيل واحد يعتمد عليه الجميع يماثل ما سيكون عليه العالم لو أجرى كل تعاملاته عبر بنك وحيد أو ترحّل سكانه عبر خط طيران واحد. وقد تبدّى ذلك الخطر في أواسط أغسطس الماضي حين تعطلت خدمة "اسكايب" للمهاتفة الإنترنتية للمرة الأولى ليومين كاملين. وقالت "اسكايب" إن العطل حدث بسبب اضطرار حواسيب كثيرة على شبكتها -تعمل بنظام "ويندوز"- للإغلاق لإتمام تحديث لنظام تشغيلها، إذ كانت مايكروسوفت قد أصدرت تحديثا دوريا. وتعمل شبكة "اسكايب" عبر الاستفادة من سعة نقل البيانات (bandwidth) لحواسيب مشتركيها. ولم يكن هذا العطل ليحدث لو تألفت شبكة حواسيب "اسكايب" من مدى متنوع من أنظمة التشغيل، وليس نظاما واحدا. والمقصود هنا أن الاعتماد على نظام تشغيل واحد قد يعيق عمل أو بزوغ بعض التطبيقات المبتكرة مثل برمجية "اسكايب".
ومن المخاطر التي تصاحب الوضع الاحتكاري لمايكروسوفت أيضا ما يقول منتقدوها بدأبها على الاستحواذ على الشركات ذات الأفكار الواعدة وتحويلها لمنتجات تقليدية، ومن ثم قتل المنافسة المستقبلية. (وتجدر الإشارة إلى أن مايكروسوفت سعت لشراء أميركا أونلاين وجوجل في مراحلهما المبكرة، ولكن قوبل العرض بالرفض).
ورغم إلحاح خطر دعاوى الاحتكار، فإن ثمة خطرين آخرين ربما لن تفلح معهما التسويات؛ البرمجيات الإنترنتية، والبرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر.
كيف يبدو مستقبل مايكروسوفت بعد رحيل جيتس؟
بينما يترك بل جيتس مهامه اليومية لدى مايكروسوفت، يبقى معلّقا سؤالان كبيران يبدو أن العبقري جيتس يئس من العثور على إجابات لهما.
في الأول من يوليو الماضي تخلى بيل جيتس، أحد الشريكين المؤسسين لمايكروسوفت، عن مهامه اليومية لدى الشركة العملاقة، مكتفيا بمنصب الرئيس غير المتفرغ والاستشاري عند الطلب. وكانت مايكروسوفت قد كشفت في الخامس عشر من يونيو 2006 عن مرحلة انتقالية مداها عامان يحل فيها بالتدريج مسئولون كبار بمايكروسوفت محل جيتس ليتفرغ الأخير لإدارة المؤسسة الخيرية الضخمة التي تحمل اسمه واسم زوجته.
ولكن نظرة متفحصة ربما تقودنا لأسباب إضافية لاختيار جيتس التنحي عن إمبراطورية مايكروسوفت في هذا التوقيت. فثمة قوتان كبيرتان في ميدان تكنولوجيا المعلومات تنازعان سيادة مايكروسوفت، ولم تستطع الأخيرة أن تواجههما بحسم خلال نحو عقد من الزمان، كما كانت تفعل في الماضي. هاتان القوتان هما التطبيقات الحرة والمفتوحة المصدر (مثل نظام تشغيل لينِكس وحزمة البرامج المكتبية أوبن أوفيس) ثم البرمجيات الإنترنتية التي تُشَغّل كلية عبر متصفح الإنترنت، دون الحاجة لتثبيتها على القرص الصلب للحاسوب الشخصي، كما في الحزم البرمجية من جوجل وزوهو (Zoho) وغيرهما.
ويبدو أن جيتس ورفاقه أدركوا أن الحاجة ماسة لمقاربات ورؤى جديدة في التعامل مع هاتين القوتين، وذلك لأن عقلية الحقبة الماضية لم تعد قادرة على التعامل مع المعطيات والظواهر الجديدة بكفاءة. ومن ثَمّ، ربما، كان قرار تنحي جيتس.
ضخ دماء جديدة
يبدو أن مايكروسوفت أدركت عمق التغيير في قطاع تكنولوجيا المعلومات مع نهايات العام 2004 وبدايات 2005. ومن دلائل ذلك أن سعت الشركة لاجتذاب دماء جديدة ضمن مسئوليها الكبار. ففي أبريل 2005 استحوذت مايكروسوفت على شركة "جروف" للتطبيقات التكاملية (أي تلك التي تيسر التعاون بين موظفين بشركة في إنشاء وتحرير الملفات النصية والمحاسبية وغيرها آنيا عبر شبكات حاسوبية). وعُين رئيس جروف، راي أوزي، مديرا تقنيا بمايكروسوفت، ليصبح واحدا من المسئولين الخمسة الكبار في الشركة. وكانت تلك المرة الأولى التي تدفع بها مايكروسوفت مسئولا بشركة تم شراؤها لهذه المنزلة الرفيعة مباشرة.
وقال متابعون لقطاع تكنولوجيا المعلومات حينها إن الغرض من تلك الصفقة كان بالأساس الحصول على السيد أوزي، وهو المبرمج الفذ الذي طور وفريقه "لوتس نوتس" التي كانت من أولى التطبيقات التكاملية في النصف الثاني من التسعينيات. ثم تأكدت صحة هذه التحليلات عندما أعلنت مايكروسوفت بعد نحو عام عن المرحلة الانتقالية السابقة لرحيل جيتس، والتي صاحبها ترقية السيد أوزي ليصير معماري البرمجيات الأول، وهو المنصب الذي كان يشغله جيتس منذ العام 2000، وليكتفي الأخير بوظيفة الرئيس (chairman) حتى غرة يوليو المنصرم.
فماذا الذي حدث في العام 2005 ليستحث تلك القرارات لدى مايكروسوفت؟ بحلول ذلك العام كانت ثمة ظاهرتان كبيرتان لم يعد ممكنا لمايكروسوفت تجاهلهما أو التهوين من شأنهما. أولهما كان صعود جوجل. ففي أغسطس 2004، كانت جوجل قد طرحت أسهمها للاكتتاب العام، محققة أكبر تقييم سوقي لشركة إنترنتية (نحو 22 مليار دولار) في أول أيام التداول منذ انهيار أسهم شركات الإنترنت أواخر العام 2000. وبعد نحو ثلثي العام كانت قيمة سهم جوجل في صعودها الصاروخي، بالغة 180 دولارًا، بارتفاع نحو 100% عن سعر الطرح في أغسطس، (ويبلغ سهم جوجل عند كتابة السطور نحو 530 دولارا). أما الظاهرة الثانية فكانت ترسخ موجة البرمجيات الحرة والمفتوحة.
تحدي البرمجيات الإنترنتية
مثلت جوجل منذ بدايتها تحديا لمايكروسوفت. فمحرك البحث الفائق الذي قدمته جوجل جعل المستخدمين أكثر اعتمادًا على الشبكة العالمية في الحصول على المعلومات. وهذا بحد ذاته تهديد لمايكروسوفت التي تجني العوائد من بيع البرمجيات التي تعضد ارتباط المستخدمين بالحواسيب الشخصية (مثل نظام ويندوز وحزمة برمجيات "أوفيس" المكتبية). ومن ثم، فقد كان القلق لدى مايكروسوفت بأن جوجل ربما تستطيع أن تجعل متصفح الإنترنت المزود عبر أي نظام تشغيل (وليس "ويندوز" بالضرورة) نقطة الانطلاق في تعامل المستخدمين مع المعلومات عامة (بحثا وتصنيفا وإنشاءً وتخزينا)، مما قد يُميل كفة الميزان في غير صالح نظام ويندوز وأخواته من منتجات مايكروسوفت.
أما التحدي الأكبر من جوجل فكان اعتمادها على نموذج جديد في تطوير البرمجيات وتحقيق العوائد من ورائها. ففي النموذج السائد في الحقبة قبل جوجل، كانت الشركات تبيع ما تطور من برمجيات، وتجني الأرباح من عوائد بيع تلك البرمجيات وتحديثاتها في الإصدارات الجديدة. وقد تفوقت مايكروسوفت في هذا المضمار، خاصة مع برمجياتها هائلة الانتشار ويندوز وأوفيس. وفي المقابل فإن جوجل تتيح برمجياتها مجانا في الغالب، أي أن منتجاتها مجانية للمستخدم. ولكنها تحصل عوائدها من الشركات التي ترغب في وضع إعلاناتها لتصحب بعضا من تلك المنتجات.
وقد أطلقت جوجل الإشارة الأولى على هذا التوجه في أول أبريل 2004 بخدمة "جي ميل" (Gmail)، خدمة البريد الإلكتروني من جوجل، وقد كانت مواصفاتها مغايرة لكل منافسيها (هوتميل وياهو) لدرجة أن ظنها البعض حينها "كذبة أبريل". فبينما توقفت السعة التخزينية لياهو وهوتميل حينها عن 4 و2 ميجا بايت، على الترتيب، أتاحت جي ميل 1000 ميجا بايت (أو واحد جيجا بايت) من السعة التخزينية. إضافة إلى ذلك، كانت حركة التحديث في جي ميل متسارعة للحد الذي بدأ "جي ميل" ينافس نظراءه من برمجيات مايكروسوفت غير المجانية المزودة على القرص الصلب للحاسوب الشخصي مثل برنامج "أوت لوك إكسبرس".
وخلال الأعوام بين 2004 و2007 تأكد توجه جوجل بتقديمها مجانا بدائل مقبولة المستوى لما تقدمه مايكروسوفت بمقابل غير بسيط. وقد شمل ذلك برمجيات لمعالجة النصوص والجداول المحاسبية والعروض التقديمية والرزنامة واستقبال المحتوى المتجدد من المواقع (RSS) وغيرها، وكلها تعمل عبر متصفح الإنترنت. ويستطيع المرء أن يقوم بإنشاء وحفظ واسترجاع الملفات دون مقابل، ودون تثبيت برامج على حاسوبه الشخصي أو الحاجة لتحديث البرمجيات بانتظام.
وليست جوجل السائر الوحيد على هذا الطريق. فثمة جيل جديد من الشركات التي تقدم كل الخدمات التي كانت مقصورة على برمجيات القرص الصلب عبر متصفح الإنترنت. ومن أمثلة ذلك شركة "زوهو" (Zoho) و"جوفيس" (gOffice) اللتان تقدمان حزمتي برمجيات مكتبية، و"سيلز فورس" (SalesForce.com) لخدمات العملاء المدارة إنترنتيا، وغيرها. بل إن شركة "أدوبي"، المشتهرة ببرنامجها "فوتو شوب" لمعالجة الصور، قد بدأت في طرح خدمات إنترنتية لمعالجة النصوص وتحويل الملفات لنسق (PDF) مجانا عبر موقع Acrobat.com. ويطلق البعض على هذه الموجة من البرمجيات الإنترنتية "ويب 2" (Web 2.0)، أو الجيل الثاني من الشبكة العالمية للمعلومات.
أسئلة تبحث عن إجابات
أمام هذه الموجة الجديدة من البرمجيات الإنترنتية، بحثت مايكروسوفت عن الإجابات لدى راي أوزي. الآن وبعد مرور نحو عامين على شغله منصب معماري البرمجيات الأول، لا يبدو أنه أنجز الكثير. وهذا مفهوم لأن التغير في بيئة تكنولوجيا المعلومات ربما يفرض على مايكروسوفت أن تغير طريقها الذي سلكته بنجاح لما يزيد على ثلاثة عقود. إذ كيف تستطيع الشركة العملاقة أن تواصل بيع برمجيات يقدم المنافسون أمثالها مجانا للمستخدمين؟ أتستطيع مايكروسوفت أن توزع "ويندوز" أو "أوفيس" مجانا؟ فإن لم يكن ذلك ممكنا، فما الذي تستطيع مايكروسوفت أن تقدمه مجانا للمستخدمين لتحفظ ولاءهم لـ"ويندوز"؟ وما مصير "ويندوز" لو سادت البرمجيات الإنترنتية، تلك التي تعمل عبر متصفح الإنترنت ولا تحتاج بالضرورة لنظام التشغيل الأشهر من مايكروسوفت؟
ربما أدرك جيتس، ذو الثلاثة وخمسين عاما، أنه ليس لديه إجابات وافية لتلك الأسئلة الصعبة. وربما لم يصل أوزي هو الآخر لإجابات. ولكن إلى حين تحصيل إجابات، قررت مايكروسوفت ترسيخ العلامة التجارية لـ "ويندوز" بإضافة تلك الكلمة لطيف واسع من منتجاتها، فصار برنامج التراسل "إم إس إن مسنجر" "ويندوز لايف مسنجر"، وصار "هوتميل" "ويندوز لايف ميل"، ومحرك البحث "إم إس إن" "ويندوز لايف سيرش"، وهكذا. كما طرحت مايكروسوفت مؤخرا خدمة "ويندوز ورك سبيس" المجانية التي تتيح للمشتركين حفظ واستعراض واسترجاع (وليس تحرير) الملفات، خاصة الملفات المنشأة عبر حزمة "أوفيس". ودعمت مايكروسوفت أيضا إمكانيات التعاون والتكامل في برمجياتها، مما ييسر التشارك في إنشاء وتحرير وحفظ واسترجاع الملفات عبر برمجياتها، خاصة "أوفيس 2007".
خطر البرمجيات المفتوحة
أما النموذج الآخر في تطوير البرمجيات الذي ينازع نموذج مايكروسوفت فهو حركة البرمجيات الحرة والمفتوحة. وهو اتجاه أطول عمرا وفي ظن البعض أعمق أثرا من البرمجيات الإنترنتية. في هذه البرمجيات يتعاون عشرات أو مئات أو آلاف من المبرمجين طوعا لإنتاج برامج أغلبها مجاني، وتتاح شفرتها للجميع لمن يريد أن ينشرها أو يغيرها. وهذا يختلف عن البرمجيات المغلقة (أي لا تتاح شفرتها للمستخدمين) مثل كل أو أغلب برمجيات مايكروسوفت وأبل وأوراكل، على سبيل المثال.
ومن أشهر البرمجيات المفتوحة نظام تشغيل "لينِكس" وبرمجية "أباتشي" لتشغيل خوادم الإنترنت، و"سند ميل" لتشغيل خوادم البريد الإلكتروني، ومتصفح فايرفوكس، وحزمة البرامج المكتبية "أوبن أوفيس" (OpenOffice.org). وتستخدم البرمجيات الحرة والمفتوحة وزارة الدفاع الأمريكية وكبرى البنوك الأمريكية، مثل ميريل لنش، وشركات للإنتاج السينمائي مثل "دريم وركس"، وشركات طيران مثل "إير فرانس".
ورغم أن نظام "لينِكس" لا يزال محدود الانتشار على الحواسيب الشخصية (نحو 3%، مقارنة بنحو 93% لـ "ويندوز") إلا أنه أوسع انتشارا على الحواسيب الخادمة للشركات، بنسبة تبلغ 23%، مقارنة بـ 55% لـ "ويندوز"، كما أوردت مجلة فورتشن في أواخر 2004. يبد أن شركة "دل"، ثاني كبرى شركات تصنيع الحواسيب، بدأت العام الماضي إصدار حواسيب محملة بأحد إصدارات نظام "لينِكس" على بعض طرزها من الحواسيب المحمولة. وتزمع هيولت باكارد أن تلحق بمنافِستها على ذلك المضمار.
وكانت حركة البرمجيات الحرة والمفتوحة قد بدأت على يد المبرمج والباحث ريتشارد ستولمان بالعام 1984. ولكنها اكتسبت الزخم الكبير بعد أن طور المبرمج الفنلندي "لينَس تورفالدز" نواة نظام تشغيل "لينِكس" في العام 1991 وطرحها عبر الإنترنت للمبرمجين ليبنوا عليها ويحسنوها. وتسارع انتشار "لينِكس" خلال النصف الثاني من التسعينيات، خاصة مع إقدام شركات مثل "رد هات" (ولاحقا "آي بي إم") على تقديم خدمات الدعم الفني للحواسيب العاملة بنظام لينِكس.
لم يكن الخطر الذي تلوح به البرمجيات المفتوحة على منتجات مايكروسوفت مستترا. فالبرمجيات المفتوحة تقدم بدائل إن لم تكن مجانية فهي أقل تكلفة من نظيراتها لدى مايكروسوفت. وقد بدا خيار البرمجيات المفتوحة جذابا لدى بعض الحكومات؛ فقد رأت دول مثل الصين والبرازيل أن اعتماد البرمجيات المفتوحة والإنفاق على تدريب مبرمجين محليين للقيام بالدعم الفني قرار ربما يكون أكثر وجاهة اقتصاديا من بذل استثمارات ضخمة على نفقات ترخيص البرمجيات مغلقة المصدر.
لصد الموجة المتصاعدة للبرمجيات المفتوحة اتبعت مايكروسوفت أساليب شتى. منها حملة إعلانية ضخمة عنوانها "تعرف على الحقائق" (Get the Facts)، محورها أن الكلفة الكلية لاستخدام البرمجيات الحرة والمفتوحة، خاصة "لينِكس"، أعلى من تلك المترتبة على استخدام "ويندوز" وأخواته. ولكن يبدو أن هذه الحملة كانت محدودة الأثر، وذلك لأن دراسات من مصادر مختلفة قارنت بين الكلفة الكلية لاستخدام كل من "لينِكس" و"ويندوز" وتوصلت لنتائج متضاربة.
ومن ضمن أساليب المواجهة أيضا ما أشيع عن دعم مايكروسوفت لشركة أمريكية تُدعى "اسكو" (SCO) قاضت شركة "آي بي إم" وعملاءها (ومنهم شركة "مرسيدس") في عام 2003 بدعوى استخدامهم بغير وجه حق أجزاءً من الشفرة البرمجية لنظام "يونكس" (التابع لـ "اسكو") في نظام "لينِكس" الذي تستخدمه "آي بي إم" على حواسيبها الخادمة. في هذه الدعوى طالبت "اسكو" بتعويض قدره 6 مليارات دولار، ولكن رفضت المحكمة الدعوى في أواخر 2006.
لماذا الرحيل يا سيد جيتس؟
إذن بحلول العام 2005 كان جليا أن البرمجيات الحرة والمفتوحة راسخة الجذور. ولم يكن ثمة دلائل على أن بيل جيتس ورفاقه لدى مايكروسوفت قد توصلوا بعد لطريقة ناجعة للتعامل مع هذا النموذج في تطوير البرمجيات الذي يناقض نموذجهم. وربما بدا لجيتس أنه لم يكن مؤهلا لمواجهة هذا التحدي. فآثر جيتس المضي قدما نحو مؤسسته الخيرية، تاركا البرمجيات المفتوحة وأسئلتها الصعبة للدماء الجديدة في الشركة العملاقة.
ويبدو للّحظة أن راي أوزي أميل للمهادنة مع البرمجيات المفتوحة. فبدلا من الصدام –وهو التوجه الذي يشيع أن الرئيس التنفيذي للشركة ستيف بولمر يفضله– أتاحت مايكروسوفت خلال العامين الأخيرين إمكانيات تعضد للمرة الأولى التوافق (interoperability) بين الحواسيب العاملة بـ "ويندوز" وتلك العاملة بـ "لينِكس" داخل الشبكة الحاسوبية الواحدة أو عبر شبكات مختلفة.
وفي أجواء التحديين الكبيرين –البرمجيات الإنترنتية والبرمجيات الحرة والمفتوحة– بدا تنحي جيتس عن عرش مايكروسوفت أقل احتفالية مما ظن كثيرون. وفي هذا ما يدعو ربما لبعض التعاطف. فهذا الرجل المشهود بعبقريته والذي لم يبلغ بعد أواسط العقد السادس من عمره قد بنى أكبر شركة برمجيات في العالم؛ وحتى بزوغ جوجل، كانت مايكروسوفت أسرع الشركات نموا في التاريخ. ولكن يكاد يكون ثمة اتفاق بأن مايكروسوفت ربما تكون في واحدة من أضعف لحظاتها عبر حياتها الممتدة لما يزيد على ثلاثين عاما؛ إذ لا تزال أسئلة كبيرة حول مسار الشركة المستقبلي قائمة بغير إجابات.
No comments:
Post a Comment